?نصارى أم مسيحيّون

2022 Report on International Religious Freedom: Israel, West Bank and Gaza
مايو 24, 2023
قراءة للفكر العربي الحالي
مارس 2, 2023
 
347142064_6518263014885689_8486790483642085355_n (1)

مقالة في جريدة القدس اليوم لتوضيح ما التبس والإجابة بموضوعية على موضوع أخذ يشتد الجدال حوله في الآونة الأخيرة.

نصارى أم مسيحيّون؟!

منذ مدة غير قصيرة، بدأ بعض المسيحيين، خاصة في البلدة القديمة من القدس، باستخدام تعبير "الحي المسيحي" وذلك في إشارة إلى "حارة النصارى" الشهيرة في البلدة القديمة، رافضين بذلك تعبير "النصارى". وقد قرأت في الفترة الماضية عدّة مداخلات على وسائل التواصل الاجتماعي تحاول إقناع القارئ أن الفرق بين المسيحية وبين النصرانية كبير وأننا كمسيحيين لا يجب أن نستخدم لفظة نصارى وأننا بالتأكيد لسنا نصارى لأن النصارى شيعة هرطوقية، أي مخالفة لتعليم الكنيسة القويم. وخلال شهر أيار الأخير، بدأ بعض المؤمنين بتغيير تعبير "يا معونة النصارى" في طلبة مريم العذراء إلى "يا معونة المسيحيين"، الأمر الذي دفعني إلى معالجة الموضوع بصورة علمية حتى نتبيّن هل كان أجدادنا والسابقون جهلة غير مدركين للألفاظ التي يستخدمونها، أم أننا نتبع موجة مستحدثة لا مبرّر لها ولا ينبغي أن نتبعها؟

اسم الجماعة المسيحية في القرن الأول
لقد أُطلِقَ على الجماعة المسيحية الأولى عدة أسماء. فالمسيحيون الأوائل كانوا يهوداً وصاروا مسيحيين، وبالتالي عرفت هذه الجماعة باليهود المسيحيين أو بالمسيحيين من أصل يهودي. ولكن كانت هناك أيضاً جماعة مسيحيّة من أصل غير يهودي، إما من الأمم الأخرى أو من الوثنيين الذين صاروا مسيحيين. وعليه عُرِفَت في القديم جماعتين من المسيحيين أو كنيستين: الكنيسة من الختان والكنيسة من الأمم . كما نعرف من سفر أعمال الرسل، في أنطاكية، أُطلِقَ على كنيسة الأمم، أو المؤمنين الوثنيين، اسم مسيحيين وذلك لأن الرسل كانوا يبشّرون باسم المسيح القائم من بين الأموات. أما كنيسة الختان، أو المسيحيين من أصل يهودي، فقد أطلق عليهم اسم ناصريين / نصارى، كما ورد في سفر أعمال الرسل عن القديس بولس أنه «أَحَد أَئِمَّةِ شِيعَةِ النَّصارى»، وذلك في إشارة إلى يسوع الناصري، ولكن أيضاً في إشارة أعمق إلى تحقيق نبوءة من العهد القديم كما سنرى لاحقاً.

أصل المشكلة: لفظة باللغة الأجنبية
تبدأ المشكلة بحسب المقالات أو المداخلات التي قرأناها، من طائفة من المسيحيين تعود إلى القرن الأول الميلادي أُطلِق عليها اسم "Nazareans / Nazoreans" بالإنجليزية وهي من اليونانية "Nazōraíos" والآرامية "nāṣrāyā"، حيث وردت هذه اللفظة أو هذا الاسم في إشارة إلى جماعة مسيحية من أصل يهودي عاشت في فلسطين/بلاد الشام بين القرن الأول والرابع الميلادي، وبالتالي هم جماعة كنيسة الختان.

بما أن اللفظة أجنبية وليست عربية، عندما تمت معالجة الموضوع باللغة العربية، اضطر الكاتب إلى ترجمة اللفظة وهنا توجّب الاختيار: هل نترجمها إلى "ناصريين" أم "نصراويين" أم نصرانيين" أم بالأحرى نستخدم تعبيراً معروفا وفّره لنا القرآن وهو "نصارى"؟! يجب أن نكون على وعي ودراية بأن الترجمة العربيّة للكلمة لا علاقة لها إطلاقاً بما ورد في القرآن لا من قريب ولا من بعيد لأنّ هذه الطائفة من المسيحيين أو النصارى عاشت بين القرنين الأول والرابع وبالتالي قبل الإسلام أقله بثلاثة قرون. وقد اختارت الترجمة العربية للكتاب المقدس والتي أصدرها الآباء اليسوعيين لفظة "نصارى"، كما وردت على سبيل المثال في سفر أعمال الرسل ٢٤، ٥.

لقد ورد ذكر هذه الطائفة في كتابات عدد من الكتاب القدامى وهم: إبيفانيوس من سلاميس (كوستانسيا في قبرص) وهيرونيموس (جيروم) وأغسطينوس من هيبون (عنابة في الجزائر) وثيودوريت من سيروس (جزيرة يونانية). وهذه هي المصادر التي يلجأ إليها أصحاب المواقف المعادية للفظة "نصارى". وهنا يجب أن نبحث عن المعلومات التي أوردها أصحاب هذه المقالات بالعربية ومقارنتها مع ما ورد في الدراسات الأكاديمية أو في كتابات هؤلاء الكتاب الأقدمين.

يقول "صباح إبراهيم" في مقالة له حول الموضوع ما يلي:
«النصارى لا يدينون ما يدين ويعتقد به مسيحيو الروم والشرق وبقية العالم من عقائد عن طبيعة المسيح ولاهوته وعن صلبه وقيامته، بل يعتقدون بنفس ما جاء به محمد من عقائد أهل الكتاب التي سمعها منهم من حيث إنه إنسان وعبد الله فقط، ولم يُصلب، بل شُبه للناس ان المصلوب هو المسيح بينما رفعه الله حيا الى السماء قبل الصلب وصُلب غيره»
وأيضاً
«كان النصارى الأبيونيين يقولون إن الإيمان بيسوع المسيح غير كاف للخلاص، بل يجب العيش وفق الشريعة اليهودية وتطبيقها، ويقولون ان يسوع المسيح ليس ابن الله.»

والحقيقة أن هذا الكلام غير دقيق وغالبيته خطأ. أصاب صاحب الاعتراض في أنّهم يقولون إنّ «الإيمان بيسوع غير كافٍ للخلاص» أما بقية ما ورد في الاقتباس أعلاه فغير صحيح على الإطلاق، وذلك بشهادة معاصري هذه الفئة من المسيحيين. فقد تعرّض لهذه الفئة القديس هيرونيموس في إحدى رسائله إلى القديس أغسطينوس (الفصل الرابع من رسالته رقم )٧٥ والتي قال فيها ما يلي:

«توجد في أيامنا هذه طائفة بين اليهود في سائر المجامع في الشرق، والتي تسمى طائفة "الميناي" (؟!)، والتي يدينها الفريسيون أيضا إلى يومنا هذا. يعرف أتباع هذه الطائفة باسم "الناصريين" (النصارى؟!)، وهم يؤمنون بالمسيح ابن الله المولود من مريم العذراء، ويقولون إن الذي تألم تحت حكم بيلاطس البنطي وقام هو نفسه الذي نؤمن به نحن. لكن بينما يرغبون في أن يكونوا يهودا ومسيحيين، فهم ليسوا هذا ولا الآخر» .

وبالتالي، القديس هيرونيموس، المعاصر لهذه الجماعة، يقول إنّهم يؤمنون بالمسيح إيمانا قويماً لا تشوبه شائبة، وليس كما يدعي "صباح إبراهيم"، لكن اعتبرتهم الكنيسة هراطقة وذلك لأنّهم بالإضافة إلى إيمانهم المسيحي القويم، أصروا على ممارسة الشعائر الدينية اليهودية مثل الختان وتقديم الذبائح واحترام يوم السبت وما إلى ذلك.

وقد أضاف "صباح إبراهيم" في مقالة أخرى حول الموضوع مستشهداً بأبيفانيوس من سلاميس، ما يلي:
«كتب القديس ابيفانوس عام ٤٠٠ م عن النصارى ما يلي: هم شيعة هرطوقية ينحدر أتباعها من أصل يهودي، يربطون عقيدتهم بإنجيل منحول ومتهود يعود لسنة ١٣٠ ميلادي يعرف بإنجيل الناصريين، هو عبارة عن انجيل متى بعد حذفهم الإصحاحات الثلاث الأولى التي تحدثت عن ميلاد المسيح والإصحاحين الأخيرين منه التي تحدثت عن الصلب والقيامة. اعتمد هذا الإنجيل الهراطقة الأبيونيين (الفقراء)، وهذه الطائفة هي التي انبثقت عنها طائفة النصارى واعتمدت هذا الكتاب لهم. لقد اضطهد الرومان المسيحيون الأبيونيين بسبب هرطقتهم، فهربوا من الشرق الأوسط والشام وأطراف الإمبراطورية الرومانية وسكنوا جزيرة العرب. ومن اولئك ظهرت طائفة النصارى العرب في مكة وجزيرة العرب، بزعامة القس ورقة بن نوفل ».

ولكن عندما قرأنا عن تعاليم "إبيفانيوس من سلاميس" في الدراسات الأكاديمية، وجدنا أن ما ينقله "صباح إبراهيم" عن أبيفانيوس غير صحيح. ففي دراسة لأندروس نشرتها جامعة كينسو في مجلتها للأبحاث الأكاديمية جاء ما يلي:
«في عام ٣٧٧ م، كتب إبيفانيوس من سلاميس سفر "الباناريون". وقد حكم في "الباناريون" على ثمانين طائفة دينية بأنها من الزنادقة/الهراطقة. وكان من بين تلك الطوائف، طائفة يهودية مسيحية تسمى باسم الناصريين (Nazarenes). آمن هؤلاء الناصريون بوجود إله واحد، وأن يسوع هو ابن الله والمسيح، وأنه ستكون هناك قيامة للأموات، وأن كلا من العهدين القديم والجديد يجب أن يستخدما ككتاب مقدس» .

إذن، بشهادة "إبيفانيوس من سلاميس" نكتشف أن ما ورد لدى "صباح إبراهيم" فيه إشكالية عويصة أو أكثر، فهو إما يقتبس من مراجع غير موثوقة، أو أنّه لا يفهم ما يقرأ أو أنّه يحرّف ما يقرأ لكي يثبت وجهة نظره بأي ثمن. فبحسب ما يتوفر من معلومات، لم يذكر أي من الكتّاب الأقدمين تفاصيل بخصوص إنجيل متى العبراني. نعرف أنه كان موجوداً، ولكن لا نعرف مضمونه، وكذلك نعرف أن روما في القرون الثلاثة الأولى من الحقبة الميلادية كانت تضطهد المسيحيين جميعاً ولم يكن الرومان مسيحيون بل كانوا وثنيين.
وحتى نتأكد مما جاء في دراسة "أندروز"، وجدنا نسخة إلكترونية لكتاب "الباناريون" لإبيفانيوس جاء فيه تحت الرقم ٢٩:
«الناصريون الذين يعترفون بأن يسوع المسيح هو ابن الله، ولكن جميع عاداتهم تتوافق مع الشريعة»
وجاء عنهم أيضاً ما يلي:
«إنهم يختلفون عن اليهود، ويختلفون عن المسيحيين، فقط بالطرق التالية. إنهم يختلفون مع اليهود بسبب إيمانهم بالمسيح، لكنهم لا يتفقون مع المسيحيين لأنهم ما زالوا مقيدين بالناموس - الختان والسبت وما إلى ذلك.»

وينبغي أن نطرح تسؤلا آخر يتعلق بالترجمة. فمن الذي اختار أن يترجم لفظة (Nazarenes) إلى "نصارى" وليس نصرانيين أو نصراويين أو ناصريين. رغم أنّني لا أعارض استخدام لفظة "نصارى" وذلك لأنّها كما رأينا تشير إلى طائفة تؤمن بالله وبالمسيح إيمانا قويماً لا يشوبه شائبة، وأنّ خطأهم الجسيم يكمن في المحافظة على تعاليم الشريعة الموسويّة، وهذا غير موجود إطلاقاً ولا دليل عليه من خلال ما نعرفه من القرآن عن نصارى الجزيرة العربية.

وبالتالي، أعتقد أن ما أتينا به من دلائل يكفي لتبيان عدم صحّة القائل بأن النصارى أو (Nazarenes) هم فئة لا تؤمن بأن يسوع هو ابن الله بحسب إيمان الكنيسة الكاثوليكية.

من أين جاءت لفظة Nazarenes؟
أول شخص أطلق عليه لقب "الناصري" هو يسوع المسيح. حيث ورد في إنجيل متى بعد عودة العائلة المقدّسة من مصر، ما يلي: «جاءَ مَدينةً يُقالُ لها النَّاصِرة فسَكنَ فيها، لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ الأَنبِياء: إِنَّه يُدعى ناصِريّاً» (متى ٢، ٢٣).

المشكلة في هذا النصّ هي أنّ علماء الكتاب المقدّس لم يتمكنوا من العثور على هذه النبوّة، بعكس مئات النبوات في العهد القديم والتي تمّ العثور عليها واقتباسها ومطابقتها. فهل من نبوءة في العهد القديم عن المسيح الناصري، وتحمل في طياتها معاني مسيانيّة/مسيحانيّة (بمعنى أنّها تشير إلى المسيح الموعود) ؟

لدينا نبوءة في سفر القضاة تحوي لفظة "نذير" في النبوءة التي تشير إلى مولد شمشون: «أَنَّكِ ستَحمِلينَ وتَلِدينَ ابنًا لا يَعْلو رأسَه موسًى، لأَنَّ الصبِيَّ يَكونُ نَذيرًا للهِ مِنَ البَطْن، وهو يَبدأُ بخَلاصِ إِسْرائيلَ مِن يَدِ الفَلِسطينيِّين» (قضاة ١٣، ٥ و٧). ولكن المشكلة في هذه النبوءة هي أن المسيح يسوع لم يكن نذيراً بمعنى الكلمة، فالمسيح لم ينذر نفسه لا بنذرٍ يتعلّق بالملبس والمظهر ولا بنذر يتعلّق بالامتناع عن الأكل والشرب. بل العكس هو الصحيح بحسب ما ورد في إنجيل لوقا: «وجاءَ ابنُ الإِنسانِ يأكُلُ ويَشرَب، فقُلتُم: هُوَذا رَجُلٌ أَكولٌ شِرِّيبٌ لِلْخَمْرِ صَديقٌ لِلجُباةِ والخاطئِين» (لوقا ٧، ٣٤).

ولكن تبيّن أيضاً أنّ لدينا بالفعل في العهد القديم نبوءة مسيانيّة موائمة ومناسبة تماماً للمعنى الذين نبحث عنه، نجدها في سفر إشعياء، وهو السفر الذي يحوي أكثر الإشارات والنبوءات انطباقاً على أحداث حياة يسوع المسيح. ففي الفصل الحادي عشر نقرأ النبوءة التالية: «يَخرُجُ غُصنٌ مِن جذعِ يَسَّى وَينْمي فَرعٌ مِن أُصولِه ويَحِلُّ علَيه روحُ الرَّبّ، روحُ الحِكمَةِ والفَهْم روحُ المَشورَةِ والقُوَّة روحُ المعرفةِ وتَقوى الرَّبّ» (أشعياء ١١، ١-٢).

أين كلمة نذر ونذير؟ في الحقيقة هذه اللفظة غير موجودة، وكما رأينا فهي غير مطابقة للمعنى المقصود. ولكن إذا بحثنا عن الأصل العبري/الآرامي للفظة "فَرعٌ من أصوله"، فسنجد ضالّتنا، حيث وردت في النص العبري على النحو التالي: «וְיָצָא חֹטֶר, מִגֵּזַע יִשָׁי; וְנֵצֶר, מִשָּׁרָשָׁיו יִפְרֶה» كلمة "فرع" العربية هي "نيتصر" في أصلها العبري، بمعنى أن المفردة المستخدمة في العبريّة لم يتم ترجمتها، وإنما تمّ استخدامها كما هي بحروف لاتينية / يونانية / آرامية. هنا نجد تطابقاً تاماً بين اسم الناصري (Nazarene) الذي أُطلِقَ على يسوع وبين النبوءة التي تتعلّق بالمسيح الآتي، وبالتالي النبوءة المسيانيّة التي إليها يشير متّى في إنجيله. وأما بخصوص أنّ هذه الآية فهمتها الكنيسة الأولى بمعناها المسياني وأنّها تتعلّق بيسوع المسيح، فنجد دليل ذلك في سفر أعمال الرسل:
«وشَهِدَ له بِقولِه: وَجَدتُ داودَ بْنَ يَسَّى رَجُلاً يَرتَضيه قَلْبي وسيَعمَلُ بِكُلِّ ما أَشاء ومِن نَسْلِه أَتى اللهُ إِسرائيلَ بِمُخَلِّصٍ هو يسوع، وَفقًا لِوَعدِه» (أعمال ١٣، ٢٢-٢٣).

وبالتالي، نستنتج مما أوردناه أعلاه أولاً أن جماعة النصارى / الناصريين Nazarenes لم تكن تخالف التعليم القويم بشأن المسيح، بل كانت تؤمن إيمانا قويماً بيسوع أنه ابن الله وأنّه تألم وقبر وقام، ولكنها كانت متعلّقة بممارسات الشريعة اليهودية وهو الأمر الذي أدّى إلى اعتبارها هرطقة. والأمر الثاني أن الترجمة الصحيحة للفظة Nazarenes ليست نصارى بل ناصريين نسبة إلى المسيح يسوع الناصري، رغم أنّه لا حرج علينا إن استخدمناها تعبيراً عربيّاً. وقد انتهى أمر هذه الفرقة من المسيحيين من أصل يهودي في القرن الرابع أو الخامس الميلادي، ولا يوجد دليل على أنّها فرّت أو لجأت إلى الجزيرة العربية ونشرت تعاليمها هناك.

لا حرج علينا إذن من استخدام لفظة نصارى للتعبير عن المسيحيين العرب في الشرق الأوسط لأنّ اللفظة عربية وقد تبناها القرآن أيضاً. وأعتقد أنّ علينا في مقالة لاحقة أن نعالج موضوع النصارى في القرآن لنرى إن كان قد ورد في إطار سلبي أم إيجابي، وإن كان لدينا مبرّر جوهري لرذل اللفظ والتخلّي عنه

Arabic